فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد استمعت في هذه السورة إلى تنبيه للعرب وتحذير يقول الله فيه {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ}. ومما يزيد السخط أن عرب اليوم تهى علاقتهم بالإسلام في وقت يزداد اليهود وغيرهم تعلقا بمواريثهم، أي أن العقائد كلها تنتعش إلا الإسلام وحده فمحكوم عليه بالانكماش. بل مطلوب له التلاشى! وكما بدأت سورة الشورى بالحديث عن الوحي الإلهى، ختمت بالحديث عنه؟ فبينت أولا كيف يقع الوحي {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}. وليس كل بشر يرشح للوحى، بل يصطفى الله له طبائع خاصة ومعادن قوية، والأنبياء ليسوا سواء في طاقاتهم واستعداداتهم، كما أن نجوم السماء ليست سواء في أحجامها وأشعتها. والذي يكلف بهداية مدينة غير الذي يكلف بهداية قطر غير الذي يكلف بهداية العالم على كر العصور. وقد بعث الله محمدا بكتاب فيه شفاء الإنسانية على اختلاف الزمان والمكان، وقد بلغ الكتاب علما، وأقامه دولة، وورثه حضارة، وتركه حصانة للعالم أجمع من الزيغ والتردى {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي أحاط بصفات الكمال، فنفذ أمره، فاستجاب له كل شيء طوعًا أو كرهًا (الرحمن) الذي عمت رحمته فهيأت عباده لقبول أمره (الرحيم) الذي خص اولياءه بما ترتضيه الإلهية من رحمته، فجمع كلمتهم على دينه عقدًا وفعلًا ومآلًا.
{حم عسق} هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم يشير إلى أن معنى هذا الجمع يجوز أن يقال: حكمة محمد علت وعمت فعفت سقام القلوب، وقسمت حروفها قسمين موافقة لبقية أخواتها وبعدها آيتين، ولم تقسم {كهيعص} لأنها آية واحدة ولا أخت لها ولم تقسم {المص} مثلًا وإن كان لها أخوات لأنها آية واحدة، ولم يعد في شيء من القرآن حرف واحد آية، ويجوز أن يعتبر مفردة فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار، وتشرح الصدور والأفكار، فإن نظرت إلى مخارجها وجدتها قد حصل الابتداء فيها بأدنى وسط الحلق إلى اللسان باسم الحاء وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين، وهو جامع للحلق واللسان، وقصد رابعًا إلى اللسان بالسين التي هي من أدناه إلى الشفتين وهو رأسه ولها التصاق بالشفتين واتصال بأعلى الفم ففيها بهذا الاعتبار جمع ثم جعل بعد هذا الظهور بطونًا إلى أصل اللسان، وهو أقصاه من الشفة بالقاف، ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق والاختتام بالشفة العليا والثنيتين السفليين، ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر بما فيها من الجمع إلى مقصود السورة، وقد اتسق الابتداء فيها فيما كان من حرفين جمعهما مخرج بالأعلى ثم بالأدنى إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون كما كان في أول الإسلام حيث حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه في الشعب، وذلك أيضًا إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن من زين ظاهره بجمع الأعمال الصالحة صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة على أن في هذا التدلي بشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول، كما كان عند الظهور من الشعب بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة الذي كان الضيق سببًا له، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجًا، فإن الحاء لها من الصفات الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والميم له من الصفات الجهر والانفتاح والاستفال وبين الشدة والرخاوة، والعين لها من الصفات ما للميم سواء، والسين لها من الصفات ما للحاء، وتزيد بالصفير، والقاف له من الصفات الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة فالحرف الأول أكثر صفاته الضعف، ويزيد بالإمالة التي قرأ بها كثير من القرأء، والثاني والثالث على السواء، وهما إلى القوة أرجح قليلًا، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروح من الشعب، والرابع فيه قوة وضعف وضعفه أكثر، فإن فيه للضعف ثلاث صفات وللقوة صفتين، وذلك كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عند آخر أمره بمكة المشرفة حين مات الوزيران خديجة رضي الله عنها وأبو طالب لكن ربما كانت الصفتان القويتان عاليتين على الصفات الضعيفة بما فيهما بالانتشار بالصفير والجمع الذي مضت الإشارة إليه من الإشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار، والخامس وهو الأخير كله قوة كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «فلما هاجرنا انتصفنا من القوم وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم» ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع بعد قتال أهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم لا جرم انتشر أهل هذا الدين في الأرض يمينًا وشمالًا، فما قام لهم مخالف، ولا وافقتهم أمه من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم وقوة غيرهم وكثرتهم إلا دمروا عليهم فجعلوهم كأمس الدار، وقد جمعت هذه الحروف كما مضى وصفي المجهورة والمهموسة كانت المجهورة أغلبها إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود، وصنفي المنقطوطة والعاطلة، وكانت كلها عاطلة إلا حرفًا واحدًا، إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن أن يكون أغلب أحواله محوًا لا يرى له صفة من الصفات بل يعد في زمرة الأموات وإلى أن المتحلي بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين قليل جدًّا، وكان المنقوط آخرها إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق الجمع بعد المحو والفرق وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم، وهي ذات الدائرة المستوية الاستدارة إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع فيه والانطباق عليه والإطافة به والإسراع إليه ما ليس لغيرهم وإلى أن هم من القدم الراسخ في القول المقتطع من الفم المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم بحيث أنه لا نهاية له مع حسن استنارته بتناسب استدارته، ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في هذه الأحرف بأن جمعت أعداد مسمياتها وهو مائتان وثمانية وسبعون وفي السنة الموافقة لهذا العدد كانت ولادتي، فكان الابتداء في هذا الكتاب الديني حينئذ بالقوة القريبة من الفعل وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين في شعبان كان سني إذا ذاك قد شارف أربعًا وخمسين سنة، وهو موافق لعدد حرفي (دن) أمرًا من الدين الذي هو مقصود السورة، فكأنه أمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب ليحصل مقصودها، وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين في شعبان منها كان سني قد شارف أربعًا وستين سنة، وهو عدد موافق لعدد أحرف {دين} الذي هو مقصود السورة، فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب أن يكون ذلك مشيرًا إلى أن الله تعالى يجمع بكتابي هذا الذي خصني بإلهامه وادخر لي المنحة بحله وإبرامه، واعتناقه والتزامه، أهل هذا الدين القيم جمعًا عظيمًا جليلًا جسيمًا، يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم وحسن تأسيهم برءوس نقلته وأتباعه، ومن الآثار الجليلة في لحظها للجمع أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها السلام بيان اتصاف الرحمن، المنزل لهذا القرآن، بشمول الرحمة لجميع الأكوان، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة من آثار تلك الرحمة العامة، وهي الاجتماع على هذا الدين المراد ظهوره وعلوه على كل دين وقهره لكل أمر، فكان لذلك محيطًا قاهرًا لحظ كل قاهر وظالم، وكانت هذه الرحمة الخاصة- لنسبتها إلى الخلق- ثانية لتلك العامة ومنشعبة منها، كانت لكونها من أوصاف الخلق بمنزلة اليسار، وتلك لكونها من صفة الحق بمنزلة اليمين، لذلك- والله أعلم- قال الاستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب له في الحرف: ولما كان ذلك- أي هذه الاسم المجتمع من هذه الأحرف المقطعة- أول هذه السورة مما ينسب إلى أمر الشمال كان متى وضع على أصابع اليسار ثم وضعت على هانجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله، وكانت خمسها مضافة إلى خمس {كهيعص} المستولية على حكمة اليمين محيطًا ذلك بالعشر المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء الذي هو أول العشر ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف- انتهى.
ولما كانت هذه الحروف- والله أعلم- مشيرة إلى الاجتماع كما أشار إليه آخر السورة الماضية، قال الله سبحانه وتعالى: {كذلك} أي مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن الذي أخبرك به ربك صريحًا أول «فصلت» من أن الإله إله واحد وآخرها من أنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، ومن أنه يجمع أمتك على هذا الدين بما يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق بما يريهم من الآيات البينات والدلالات الواضحات في الآفاق وفي أنفسهم وبشهادته سبحانه باعجاز القرآن لجميع الإنس والجان ولا سيما إذا أقدم ضال على معارضته كمسيلمة فإنه يتبين لهم الأمر بذلك غاية البيان (وبضدها تتبين الأشياء) ورمز لك به سبحانه تلويحًا اول هذه السورة بهذه الأحرف المقطعة التي هي أعلى وأغلى من الجواهر المرصعة- إلى مثل ذلك، فهما نوعان من الوحي: صريح وعبارة، وتلويح وإشارة.
ولما كان المقصود الإفهام لأن الإيحاء منه سبحانه عادة مستمرة إلى جميع أنبيائه ورسله والبشارة له صلى الله عليه وسلم بتجديده له، مدة حياته تثبيتًا لفؤاده، ودلالة على دوام وداده، عبر بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار، وتقدم في أول البقرة نقلًا عن أبي حيان ومن قبله الزمخشري وغيره أنه قد لا يلاحظ منه زمن معين، بل يراد مطلق الوجود فقال: {يوحى إليك} أي سابقًا ولاحقًا ما دمت حيًا لا يقطع ذلك عنك أصلًا توديعًا ولا قلى بما يريد من أمره مما يعلي لك مقدارك، وينشر أنوارك ويعلي منارك.
ولما كان الاهتمام بالوحي لمعرفة أنه حق- كما أشارت إليه قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول- والموحي إليه لمعرفة أنه رسول حقًا وكان المراد بالمضارع مجرد إيقاع مدلوله لا يفيد الاستقبال صح أن يتعلق به قوله مقدمًا على الفاعل: {وإلى الذين} والقائم مقام الفاعل في قراءة ابن كثير ضمير يعود على (كذلك).
ولما كان الرسل بعض من تقدم في بعض أزمنة القبل، ادخل الجار فقال: {من قبلك} أي من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام، بأن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء، وأخذ على كل منهم العهد باتباعك، وأن يكون من أنصارك وأشياعك.
ولما قدم ما هو الأهم من الوحي والموحى إليه، أتى بفاعل {يوحي} في قراءة العامة فقال: {الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال.
وهو مرفوع عند ابن كثير بفعل مضمر تقديره الذي يوحيه.
ولما كان نفوذ الأمر دائرًا على العزة والحكمة قال: {العزيز} أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع ما يصنعه في أتقن محاله، فلأجل ذلك لا يقدر على نقض ما أبرمه، ولا نقص ما أحكمه.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حالي المعاندين والجاحدين، وأعقبت بسورة السجدة بيانًا أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمه وإيضاحًا لأنه الكتاب العزيز وعظيم برهانه، ومع ذلك فلم يجد على من قضى عليه تعالى بالكفر، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم الأزلية {فريق في الجنة وفريق في السعير} {وما أنت عليهم بوكيل} {ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} {ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم} {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} {وما أنتم بمعجزين في الأرض} {ومن يضلل الله فما له من سبيل} {إن عليك إلا البلاغ} {نهدي به من نشاء من عبادنا} فتأمل هذه وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر، ومحكم ما استجره، وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها.
ولما ختمت سورة السجدة بقوله تعالى: {إلا أنهم في مرية من لقاء ربهم} أعقبها سبحانه بتنزيهه وتعالى عن ريبهم وشكهم، فقال تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} كما أعقب بمثله في قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه} ولما تكرر في سورة حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله تعالى: {فأعرض أكثرهم وقالوا قلوبنا في أكنة} إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم فقال تعالى في سورة الشورى {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}- انتهى.
ولما أخبر سبحانه أنه صاحب الوحي بالشرائع دائمًا قديمًا وحديثًا، علل ذلك بأنه صاحب الملك العام فقال: {له ما في السماوات} أي من الذوات والمعاني {وما في الأرض} كذلك.
ولما كان العلو مستلزمًا للقدرة قال: {وهو العلي} أي على العرش الذي السماوات فيه علو رتبة وعظمة ومكانة لا مكان وملابسة، فاستلزم ذلك أن تكون له السماوات كلها والأراضي كلها مع ما فيها {العظيم} أي فلا يتصور شيء في وهم ولا يتخيل في عقل إلا وهو أعظم منه بالقهر والملك، فلذلك يوحي إلى من يشاء بما يشاء من إقرار وتبديل، لا اعتراض لأحد عليه.
ولما كان السياق مفهمًا عظيم ملكه سبحانه وقدرته بكثرة ما في الأكوان من الأجسام والمعاني التي هي لفظاعتها لا تحتمل، قال مبينًا لذلك: {تكاد السماوات} أي على عظم خلقهن ووثاقة إبداعهن، وفلقهن بما أعلم به الواقع، ونبه عليه بتذكير {تكاد} في قراءة نافع والكسائي {يتفطرن} أي يتشققن ويتفرط أجزاؤهن مطلق انفطار في قراءة من قرأ بالنون وخفف وهم هنا أبو عمرو ويعقوب وشعبة عن عاصم، وتفطرًا شديدًا في قراءة الباقين بالتاء المثناة من فوق مفتوحة وتشديد الطاء، مبتدئًا ذلك {من فوقهن} الذي جرت العادة أن يكون أصلب مما تحته، فانفطار غيره من باب الأولى، وابتداء الانفطار من ثم لأن جهة الفوق أجدر بتجلي ما يشق حمله من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة التي منها ما يحمل من الملائكة الذين لا تسع عقولهم وصفهم على ما عليه من كل واحد منهم من عظم الخلق في الهيئة والطول والمتانة والكبر إلى غير ذلك مما لا يحيط به علمًا إلا الذي يراهم بحيث إنّ أحدهم إذا أشير له إلى الأرض حملها كما قال صلى الله عليه وسلم «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا فيه ملك قائم يصلي» ومن غير ذلك من العظمة والكبرياء والجبروت والعلاء، أو يكون انفطارهن من عظيم شناعة الكفر بالذي خلق الأرض في يومين وجعلهم له أندادًا كما قال في السورة المناظرة لهذه سورة مريم {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدا} [آية: 90- 91] ونقص ما في هذه عن تلك لأنه لم يذكر هنا للولد، وهذا كناية عن التخويف بالعذاب لأن من المعلوم أن العالي إذا انفطر تهيأ للسقوط، فإذا سقط أهلك من تحته فكيف إذا كان من العلو والعظم وثقل الجسم على صفة لا يحيط بها إلا بارئها، فذكر الفوق تصوير لما يترتب على هذا الانفطار من البلايا الكبار، وعلى هذا يحسن أني يعود الضمير على الأراضي التي كفروا بفاطرها.